خطة بن بريك... من تفكيك الجبايات إلى توحيد الإيرادات في حساب الدولة (تقرير)
في وقت تتشابك فيه التحديات الاقتصادية والسياسية، أطلقت حكومة سالم صالح بن بريك قرارًا مصيريًا يعيد للدولة اليمنية حقها في إدارة مواردها السيادية.
القرار الرئاسي رقم (11) لعام 2025 مثّل نقطة تحوّل حقيقية في علاقة السلطة المركزية بالمحافظات، بعدما ألزمها بتوريد جميع الإيرادات إلى البنك المركزي، ومنع أي تصرف خارج النظام المالي العام.
بهذه الخطوة، وجّه بن بريك رسالة حاسمة بأن الدولة لن تبقى رهينة التجاوزات أو المصالح المحلية، وأن المرحلة المقبلة عنوانها “مورد موحّد.. إنفاق منظم.. ورقابة صارمة”.
ضبط الموارد وإغلاق منافذ الفساد:
ضمن حزمة الإصلاحات، شملت القرارات إلغاء الصناديق غير القانونية والرسوم الجانبية، وإغلاق الموانئ والمنافذ البحرية غير المرخصة مثل الشحر وقنا ونشطون ورأس العارة، كما تم حظر تدخل المحافظين في شؤون الجمارك أو منح الإعفاءات دون سند قانوني.
هذه الإجراءات أنهت واحدة من أكثر حلقات الفوضى المالية خطورة، حيث كانت بعض الإيرادات تُدار خارج الموازنة العامة، وتُستخدم لأغراض غير معلنة. اليوم، تُحوَّل كل الموارد إلى حساب الحكومة العام، في خطوة وصفها مراقبون بأنها “استعادة سيادة الدولة على اقتصادها”.
تحرير الدولار الجمركي.. قرار شجاع ومؤلم:
في إطار إعادة تنظيم السياسة المالية، قررت الحكومة تحرير سعر الدولار الجمركي خلال أسبوعين من تنفيذ الخطة، هذا القرار يهدف إلى جعل السوق أكثر شفافية وعدلاً بين التجار والمستهلكين، وتقليص التلاعب بأسعار السلع عند المنافذ.
ورغم إدراك الحكومة لصعوبة المرحلة الانتقالية وارتفاع بعض الأسعار مبدئيًا، فإنها تراهن على أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم دون قرارات شجاعة ومؤلمة في آن واحد، فمرحلة الدعم العشوائي انتهت، وحان وقت اقتصاد منضبط بقانون السوق والرقابة.
شبكة مالية موحدة:
الإصلاح لم يتوقف عند الإيرادات، بل شمل توحيد النظام المصرفي وربط المحافظات بشبكة إلكترونية واحدة، مما أغلق الحسابات المتفرقة وقلّص فرص التلاعب أو الفساد المالي.
وفي موازاة ذلك، تم تفعيل دور البنك المركزي في مأرب، وتسهيل مهام اللجنة العليا لمكافحة التهرب الضريبي والجمركي، ما يعزز الشفافية والمساءلة في كل المستويات.
كما تعهّدت الحكومة بتغطية الالتزامات الأساسية للدولة: رواتب المدنيين والعسكريين، ودعم البعثات الدبلوماسية والطلاب، والنفقات التشغيلية الضرورية، حتى لا يتحول الإصلاح إلى عبء على المواطن.
انعكاسات على المحافظات والموانئ:
في حضرموت وخاصة الساحل، بدأ القرار يؤتي ثماره تدريجيًا. فقد تم إحكام الرقابة على الموانئ التي كانت تديرها جهات محلية، وأُعيدت موارد الكهرباء والمشتقات النفطية إلى إشراف الدولة.
وفي مأرب، شكّل الربط الشبكي بين فرع البنك المركزي وعدن رمزًا لاستعادة وحدة القرار المالي، بينما بدأت في تعز حملات ميدانية لإزالة نقاط الجباية غير القانونية التي أنهكت حركة التجارة.
هذه الخطوات تؤكد أن الحكومة تسعى لتوحيد المداخيل تحت مظلة وطنية واحدة، بعيدًا عن الانقسامات التي مزّقت الاقتصاد اليمني في السنوات الماضية.
إصلاحات تعيد الثقة الدولية:
اقتصاديًا يُعتبر القرار بوابة نحو إعادة العلاقة مع صندوق النقد والبنك الدولي إلى مسارها الصحيح، بعد أن أظهرت الحكومة التزامًا فعليًا بتوحيد الإيرادات وتحسين الحوكمة المالية.
ويرى محللون أن هذه الخطوات قد تفتح الباب أمام دعم خارجي جديد، سواء في شكل منح أو تمويلات، كونها تثبت أن الحكومة تمتلك رؤية واضحة لإدارة المال العام بفعالية وشفافية.
تحديات التنفيذ:
لا يُخفى أن الإصلاح المالي في بلدٍ يعيش حربًا وانقسامًا هو مهمة شاقة. فبعض القوى المحلية ما زالت تقاوم التغيير حفاظًا على مكاسبها السابقة، كما أن القدرات الإدارية في بعض المحافظات تحتاج إلى تطوير مستمر.
لكن ما يُحسب لبن بريك وفريقه أنهم لا يكتفون بإصدار القرارات، بل يعملون على تحويلها إلى نظام مؤسسي مستدام، يضمن تنفيذها ومراقبتها على أرض الواقع.
آراء محللين واقتصاديين:
ويقول عدد من الخبراء الاقتصاديين إن “قرارات الحكومة الأخيرة تمثل أول محاولة جادة منذ سنوات لإعادة الانضباط المالي للدولة، بن بريك أثبت أن الحكومة قادرة على فرض إرادتها متى ما توفرت الإرادة السياسية والشفافية التنفيذية.”
من جهته أخرى يرى ويرى مراقبون للشأن العام أن “هذه الإجراءات تُعيد تعريف علاقة المركز بالمحافظات، وتجعل الدولة شريكًا حقيقيًا في التنمية، لا مجرد مراقب بعيد.”
فيما يعتبر مختصون في الاقتصاد والتنمية أن “القرار بقدر ما هو إداري، فهو أيضًا وطني؛ لأنه يُعيد للدولة كرامتها ويمنح المواطن الثقة بأن أمواله تذهب إلى الخزانة لا إلى الجيوب.”
بهذه الإصلاحات، تضع حكومة بن بريك أسسًا لدولة مالية حديثة تُدار بالقانون لا بالمجاملة، وتربط قوت المواطن بقوة الدولة لا بعشوائية السوق. إنها بداية مسار طويل، لكن إن استمرّ بهذه الوتيرة، فقد يشهد اليمن أخيرًا ولادة مرحلة جديدة عنوانها: “الدولة أولاً... والمصلحة العامة فوق الجميع.”