الفتيت على الجيعان بَطَاه

الفتيت على الجيعان بَطَاه
صورة من الأرشيف

محمد أحمد بالفخر

يقول الشيبان رحمهم الله (الأولون ما تركوا للتاليين شيء) من الحكمة والأمثال والمواقف،

وما أكثر الأمثال الحضرمية التي ممكن أن نستشهد بها في حياتنا اليومية ومنها ما عنونّا به مقالنا لهذا الأسبوع (الفتيت على الجيعان بطاه)

والفتيت كلّ ما هو مفتوت من بقايا الخبز يضاف له الماء الساخن مع بعض التوابل إن وجِدَت فهذا أقصى ما يحتاجه الإنسان الذي بلغ به الجوع مبلغه وبلغت به الفاقة حدّها الأعلى فهو ينظر الى وجبة الفتيت رغم بساطتها وقلة تكلفتها وعدم فائدتها الغذائية إلا انها بالنسبة له وجبة دسمة فهو ينتظرها بفارغ الصبر وبشديد اللهفة اليها لأنه ليس أمامه إلاّ هي،

ومن سيقدمها لك سواءً كانت أمك أو زوجتك أو أحد من أقاربك أو حتى أحد المتصدقين فإذا ابتلوا بثقافة التأخير وتأخروا في اعطائك إياها أو ايصالها اليك فبالتالي فهي (بطاه. بطاه. بطاه) أي مبالغة شديدة في التأخير وزمنٌ طويلٌ مرّ عليك.

هذا المثل ممكن حقيقةً أن يُضرب على الكثير من الأمور التي نعيشها في حياتنا وهو أشد واقعاً معاشاً في كثير من المسارات اليومية للفرد والمجتمع فعلى سبيل المثال لا الحصر طريق اسفلتي لم يعرف الصيانة منذ انشائه، وإذا بعوامل التعرية قد كشفت عورات المقاولين وفضحت عيوب المهندسين والمشرفين فتعددت فيه الحفر فصار بين الحفرة والحفرة عشر حفر فتسمع عن اعتمادات لترميمه ولكن تمر السنين تلو السنين فلا الطريق أُصلح ولا سلمت سيارتك ولا عظامك من الوقعات المتتالية في الحفر، فاعتمادات الترميم رغم قلتها فهي بمثابة الفتيت الذي تأخر ولم يصل للمحتاج،

وتنظر الى قرية أو حارة كلما تريده ابسط البسيط من وسائل الخدمات ولم تجد مسؤولاً يرأف بحالهم ويسارع في تقديم تلك الخدمة كمسارعته في بناء القصور الخاصة وتنمية الموارد الاستثمارية التي شاركه بها ودلّوه عليها تجار الغفلة المتوارون خلف الستار ويمسكون بخيوط العرائس المتحركة على المسرح والذين يضعون بين يديهم فرص الاستثمار المربحة التي ستُنمّي رصيدهم في أسرع وقت ممكن لينعم الأولاد والأحفاد بعيش رغيد في مستقبل أيامهم القادمة وستلهج بالتأكيد ألسنتهم بالدعاء إن كانوا صالحين في كل لحظة وحين على موفور النِعَم التي كان لأبيهم الفضل في الحصول عليها والتي لم يحصل عليها الكثير ممن ينتظرون الفتات من الفتيت.

وهؤلاء معلمي الأجيال تتضور أسرهم جوعاً وأبناء المترفين أمامهم في الصفوف يتعلمون منهم العلوم الدنيوية ولكنهم ينظرون الى معلمهم كأنه ريبوت لا روح بداخله وليس انسان من حقه أن يكون له مرتباً يفي بالحدِّ الأدنى من احتياجاته الضرورية بما يعادل الفتيت مقارنة بما يصرفه أحد أبناء المترفين.

وهذا المسؤول الذي منّ عليه الله بنعمة المسؤولية

والتفّ حوله المطبلون وحملة المباخر فكانوا ستاراً حديدياً حاجزاً بينه وبين تلبية المطالب للناس فلم يجعلوه يرى الواقع كما هو بل ما تنقله تقاريرهم المزخرفة المغشوشة، وكذلك جعلوا من أنفسهم مستشارين يُفتُون بما يجهلون ويتسببون بنكبات لهذا المسؤول أو ذاك ويتبرأون منه في ساعة الشدة ولو وصل منه الفتيت لمن هو في أمس الحاجة اليه لكان خيراً له في دنياه وآخرته وكان سيجده عوناً له في الشدائد بدلاً من فرقة (حسب الله) وما أكثر هذه الفرق.

وذاك الثري الذي فتح الله عليه من واسع رزقه ويحتاج اليه شخص ماء نتيجة ظرف معين فلا يُلقي له بالاً ويعيد اليه الكرّة مرة وأخرى فيعده ولا ينفّذ موظفوه ما وجّه به صاحبهم من الفتيت البسيط لذلك المحتاج.

فيا ليت من أشرنا إليهم يتمعّنون بعناية ما قاله الشاعر الكِنْدي العظيم أبو الطيب المتنبي وبها نختم:

وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً

كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ

مَلومُكُما يَجِلُّ عَنِ المَلامِ

وَوَقعُ فَعالِهِ فَوقَ الكَلامِ

ذَراني وَالفَلاةُ بِلا دَليلٍ

وَوَجهي وَالهَجيرَ بِلا لِثامِ

فَإِنّي أَستَريحُ بِذي وَهَذا

وَأَتعَبُ بِالإِناخَةِ وَالمُقامِ

وَلا أُمسي لِأَهلِ البُخلِ ضَيفاً

وَلَيسَ قِرىً سِوى مُخِّ النِعامِ

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبّاً

جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ

وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ

لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلى المَعالي

فَلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ