فلسطين بعد مئة عام (2123م)
د. كمال البعداني
كانت جزيرة ( سقطرى ) اليمنية الرابضة في المحيط الهندي ، هي آخر محطة سياحية لنا في اليمن . توجهنا من مطار سقطرى الدولي الى مطار الملكة بلقيس في مارب عاصمة مملكة سبأ ، وصلنا انا وصديقي البرفيسور ( شادي ) الفلسطيني الاصل وزميلي في كلية الآداب بجامعة السوربون، وصلنا الى مارب بعد منتصف الليل ، وهي المدينة التي غادرناها قبل اكثر من شهر بعد ان مكثنا فيها اسبوعا كاملا ، زرنا فيها اهم الاماكن السياحية وابرزها ( معبد الشمس ).
المدينة تعج بالحياة وكأننا في النهار او في اول الليل ، عندما تتجول في شوارعها تسمع العديد من لغات العالم المختلفة فافواج السياح يأتون اليها من كل انحاء العالم ، كما هو الحال في الكثير من المدن اليمنية ، في مطار الملكة بلقيس لا تكاد تجد لك موطئ قدم من شدة الزحام ، مابين واصل ومغادر واغلبهم سياح ، وقبل ان نصعد الى الطائرة في طريقنا الى فلسطين التقيت بصديقي (شيراك ) استاذ علم الاثار في جامعة السوربون وكان قادماً لتوه ، وبعد ان تصافحنا قال لي : كيف حالك يا جون ؟ هذه هي الزيارة الثالثة لهذه البلد السعيد ، فقلت له : اما انا فهي اول زيارة ، فهز رأسه قائلاً : حتما ستعود مرة اخرى ، حلّقت بنا الطائرة في سماء مارب ، فنظرت من النافذة وكان منظرا فوق الخيال . مدينة مترامية الاطراف ، تمتد في الصحراء متلألئة كفستان عروس مرصع بحبات الكرستال . شاهدت من علو ( قاعدة كرب إيل وتر ) الفضائية ، وهي واقعة في منطقة كان اسمها قديما ( صحن الجن ) كما اخبرني شادي الذي زار اليمن عدة مرات ، نظرت الى المدينة وهي على وشك المغيب عن ناظري ، فخرجت مني كلمات تلقائية قائلاً : وداعاً يا مدينة التاريخ والملوك ، وداعاً يا مدينة الملكة بلقيس ، ثم استعرضت في ذاكرتي شريط زيارتي لبعض مدن ومناطق اليمن المختلفة فقلت : وداعا ايها العربية السعيدة ، وداعا يا عرش بلقيس ، وداعاً يا سد مارب ويا صهاريج عدن يا ثغر اليمن الباسم ، وداعاً يا ناطحات السحاب في شبام حضرموت ، وداعا يا محمية حوف في المهرة ، وداعاً يا شجرة دم الاخوين في سقطرى ، وداعا يا مدينة الملك المظفر ( تعز ) ، وداعاً يا صنعا ء ايتها المتحف المفتوح ، يامدينة سام ابن نوح يامليحة الدنيا ، يا عاصمة اليمن الكبير ، وداعا يا مدينة صعدة يا مدينة المخطوطات والتراث ، يامدينة الرمان والعنب ، وداعا يا يمن ايها البلد المدهش ، حتماً سأعود اليك مرات ومرات كما قال صديقي شيراك ،.. في الطائرة ونحن في طريقنا الى فلسطين شرح لي صديقي ( شادي ) الترابط الروحي والاجتماعي بين اليمن وفلسطين ، حدثني عن زيارة الملكة بلقيس الى فلسطين ولقائها بالملك النبي ( سليمان ) ، كما اخبرني ان فلسطين كان اسمها قديما ( أرض كنعان ) نسبة الى الكنعانيين ، وهم الذين هاجروا من اليمن جنوب الجزيرة العربية ، واستقروا في فلسطين حوالي 3500 قبل الميلاد . قال لي : اثناء معركة طوفان الاقصى كان اليمنيون في اسوا حالاتهم من الانقسام والحروب والتدخلات الخارجية ، ومع ذلك كانو كلهم معنا ، وكانت المظاهرات الداعمة لفلسطين تكاد لا تنقطع في معظم المدن اليمنية اولها العاصمة صنعاء ، ووصلت الصواريخ اليمنية الى ارض فلسطين ، اليمن بشطريها قبل الوحدة هي من استقبلت الفلسطينين الذين تم اخراجهم من لبنان عام 1982، اليمن اليوم كما ترى دولة قوية مهابة يخطب ودها الجميع ، بينما هناك دول في المنطقة لم تعد كما كانت من قبل ، ودول اختفت من الخارطة . فقلت له : الماضي الحضاري لاي بلد هو الذي يساهم بشكل كبير في نهضتها حتى وان تعثرت فترة من الفترات ، اخذنا الحديث حتى سمعنا النداء يقول : نحن نقترب الآن من مطار ( القسام ) الدولي في مدينة غزة . وهنا اشار صديقي شادي بيده نحو غزة من نافذة الطائرة قائلاً : انظر هذه المدينة المترامية الاطراف ،كان اسمها قطاع غزة وتشمل عدة محافظات مثل ( مدينة غزة وشمال غزة ، ومحافظة خان يونس ، ودير البلح ، ورفح وغيرها ) ، كلها اصبحت الآن عبارة عن مدينة واحدة اسمها مدينة ( غزة ) . فيها ناطحات السحاب والابراج العالية والمولات والجامعات والمدن الطبية وغيرها من التي سوف تشاهدها بنفسك ، وصلنا مطار غزة مع دخول الفجر ، وكنت استمع الى أذان الفجر ينطلق من مساجد غزة ، وهذا هو النداء الذي يُعلن فيه وقت الصلاة عند المسلمين وهي خمسة اوقات ، اتجهنا من المطار مباشرة الى احدى الفنادق الضخمة ، وبعد ان صلى صديقي شادي ( صلاة الفجر ) وهو بالمناسبة من المحافظين على الصلاة ، دخلنا بعدها في نوم عميق حتى وقت الظهيرة ، وبعد ان تناولنا قليل من الطعام توجهنا الى المكان الذي يقصده كل من قدم الى غزة ، الا وهو زيارة (الانفاق ) وهي التي لعبت دورا حاسما في معركة ( طوفان الاقصى ) التي بدأت اواخر العام 2023م من القرن الماضي ، وبعدها بسنوات قليلة تحررت فلسطين بالكامل ، وغادرها كل من كان فيها من الاسرائيليين الى البلدان التي قدموا منها ، لقد حرصت السلطات الفلسطينية على الاعتناء بتلك الانفاق وترميمها ، لتجعل منها مزارا سياحيا وشاهدا على عظمة الشعب الفلسطيني واصراره على التخلص من الاحتلال ، وصلنا الى هناك فوجدنا المئات من السياح ، فدخلنا بصعوبة .
وجدنا أنفاقًا تم تصميمها بطريقة هندسية معقدة ، تمتد مئات الكيلومترات ، فيها المستشفيات والمساجد وحتى المقابر ، كما فيها المراكز التموينية والغذائية ، وفيها اماكن التدريب والاجتماعات ، واماكن صناعة وتجهيز الصواريخ والمقذوفات ، لقد كانت عبارة عن مدينة تحت المدينة ، حاول الاسرائيليون آن ذاك اغراق الانفاق بالماء لكنهم فشلوا بسبب تركيبتها الهندسية المعقدة ، قضينا في غزة عدة ايام زرنا خلالها العديد من المعالم مثل : مدينة الشفاء الطبية وقد شاهدنا عند مدخلها لوحا من الرخام منحوت عليه اسماء الاطباء الذين استشهدوا بطيران الاحتلال وهم يقومون بعملهم في مركز ( الشفاء ) اثناء معركة طوفان الاقصى ، زرنا اكاديمية (السنوار ) العسكرية ، وكلية (محمد ضيف ) للقيادة والاركان ، ومدينة ( الدحدوح) الاعلامية ، وهذه الاماكن وغيرها سميت باسماء قادة ورجال كان لهم دور كبير في معركة طوفان الاقصى و في مسيرة النضال الفلسطيني عبر تاريخه ، كما اخبرني بذلك صديقي ( شادي ) فهو مصدري لمثل هكذا معلومات ، فميناء غزة الشهير اسمه ميناء ( الشقاقي ) نسبة الى فتحي الشقاقي مؤسس حركة ( ال ج ه اد ) في فلسطين والذي اغتاله الموساد في مالطا شهر اكتوبر 1995م ، في كل شبر هنا في غزة كما في غيرها هناك قصة كفاح وتضحية ، هذه المدينة الشامخة بالأبراج وناطحات السحاب والمولات ، والتي تضاهي كبرى المدن العالمية ،قد سويت بالارض اثناء معركة طوفان الاقصى ، وقد شاهدنا كل ما حدث عبر شاشات كبرى اثناء زيارتنا لكلية ابو عبيدة ( للفنون السمعية والمرئية ) ، فضلنا التجول في مدينة غزة بالسيارة ولم نستخدم ( المترو ) ، وقفنا امام لوحة كبيرة مكتوبا عليها ( جُحر الديك ) ، واخبرني شادي كيف كانت هذه المنطقة مصيدة لجنود الاحتلال، وكذلك منطقة ( الشجاعية ) وغيرها وكلها اصبحت ضمن احياء مدينة ( غزة ) ، مكثنا في فلسطين ما يقرب من شهر زرنا فيها العديد من المدن والبلدات ، زرنا جامعة ( عرفات ) للعلوم السياسية في مدينة رام الله ، كما زرنا مدينة ( جنين ) ذات التاريخ النضالي العريق ، وفيها كلية (البرغوثي ) العسكرية ، حرصنا على زيارة مدينة ( حيفا ) وهي من اهم واكبر مدن فلسطين التاريخية ، وتقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط ، وتبعد عن غزة مسافة 152 كم ، وعن مدينة القدس نفس المسافة تقريبا ، وهي بالمناسبة كانت اول مدينة فلسطينية سقطت بيد الاسرائيليين عام 1948م ، وزرنا مدينة تل الربيع وهو الاسم القديم لها ، قبل ان يحولها الاسرائيليون الى ( تل ابيب ).
كان من المستحيل بالنسبة لي زيارة فلسطين دون ان ازور مدينة ( بيت لحم ) فلها اهمية عظيمة عندنا ، فهي مسقط رأس اليسوع ( عيس ) . وبالمناسبة المسلمون يؤمنون بعيسى المسيح ، بل انه في عقيدتهم من لا يؤمن به فليس بمسلم ، لكنهم يؤمنون به كنبي مرسل وعبدا لله ، وليس ابنا للرب كما يؤمن بذلك الغالبية من المسيحيين ، وبيت لحم تضم العديد من الكنائس . اهمها ( كنيسة المهد )، التي بنيت على يد قسطنطين الأكبر ( 330م ) ، ويقول كل علماء الآثار ان مدينة ( بيت لحم ) قد بنيت في الألف الثاني قبل الميلاد ، على يد الكنعانيين الذين قدمو من اليمن جنوب شبه الجزيرة العربية ، بعد ان انهينا زيارتنا لبيت لحم توجهنا الى مدينة ( القدس ) عاصمة الدولة الفلسطينية ، والتي تبعد عن بيت لحم مسافة ( عشرة كيلومتر ) تقريبا ، في القدس زرنا كنيسة ( القيامة ) والتي تقع داخل اسوار البلدة القديمة في القدس ، وقد بُنيت فوق الصخرة التي نعتقد نحن المسيحيون ان اليسوع قد صُلب عليها ، بينما المسلمون لا يؤمنون بذلك ، ففي قرآنهم ان الله قد رفع المسيح اليه ، في القدس زرنا المسجد الاقصى قبلة المسلمين الاولى ، قبل ان يأمرهم نبيهم بتحويل قبلتهم من بيت المقدس الى ( الكعبة ) في مكة ، الاقصى له مكانة عظيمة عند عموم المسلمين ، ففي عقيدتهم ان نبيهم قد صعد الى السماء من المسجد الاقصى ، وقد كان الاسرائيليون ايام الاحتلال يحاولون اقتحام الاقصى اكثر من مرة ، فتحدث مواجهات عنيفة بسبب ذلك ، المعركة الاخيرة التي سبقت الاستقلال كان اسمها ( طوفان الاقصى ) ، وفي القدس توجد اكبر جامعة اسلامية في المنطقة ، وهي جامعة ( احمد ي ا س ين ) الاسلامية ، لقد حان الوقت لمغادرة فلسطين ، توجهنا الى مطار القدس الدولي الذي لا يبعد كثيرا عن المدينة ، وكان اسمه ايام الاحتلال مطار ( بن غوريون ) وفي المطار الذي كان مزدحما عن آخره مابين قادم ومغادر ، شاهدت عددا من القادمين وقد منعهم الامن الفلسطيني من دخول البلاد ، وقد تبين لي فيما بعد ان السبب هو انهم من ( اليهود ) رغم انهم يحملون جوازات اوروبية ، قال لي شادي : لقد عانينا منهم كثيرا ولذلك نحن نطبق ما جاء في ( العُهدة العُمرية ) والذي حذرنا منهم من وقت مبكر وكانه كان يستشرف المستقبل ، والعهدة العمرية نسبة الى الخليفة الثاني للمسلمين ( عمر بن الخطاب ) ، والذي كتبها لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحها المسلمون عام 16 هجرية ، فقد كتب لهم كتابا أمنهم فيه على كنائسهم وممتلكاتهم، واشترط ألا يسكن أحد من ( ال ي ه ود ) معهم في المدينة. وقد اعتبرت العهدة العمرية واحدة من أهم الوثائق في تاريخ القدس وفلسطين. لذلك وجدتها مكتوبة باكثر من لغة ومعلقة في اكثر من مكان داخل مطار القدس الدولي ، اقلعت بنا الطائرة قبل منتصف الليل في طريقنا الى باريس ، فالقيت من الجو نظرة اخيرة على المدينة التي احببتها كثيرا ، فاخذت اقول : وداعا يا قدس وداعا يا ارض فلسطين ، يا ارض الزعتر والزيتون ، وداعا يا من ولد فيك المسيح ، وصلب فيك المسيح ، وداعا يا ارض الانبياء ويامن صعد منك الى السماء محمد آخر الانبياء كما يقول صديقي ( شادي ) ، وهنا ابتسم شادي الذي كان يجلس بجانبي ، عندما سمع مني هذا الكلام وقال : اسأل الله ان يهديك الى الاسلام يا صديقي جون فهو دين جميع الانبياء ، وهنا وجدت نفسي لا ارادياً انظر الى اعلى وكأني اقول : اللهم استجب لدعاء صديقي شادي …وداعا فلسطين .. هذا منشور تخيلي لما سيكون عليه وضع فلسطين بعد مئة عام 2123م …