سالم بن بريك: دروس في النزاهة والإصلاح من قلب الفوضى اليمنية

فتحي أبو النصر
( نقد ذاتي وطني)..
يطل علينا نموذج فريد في الساحة اليمنية: سالم صالح بن بريك، رجل دولة أثبت أن النزاهة ليست مجرد شعار أخلاقي، بل أداة فعالة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وللتحكم في الاقتصاد بمعايير تتجاوز الدعم الخارجي والمنح السياسية.
يأتي ذلك في زمن تتآكل فيه القيم، وتُغرق الشعب اليمني في أزمات اقتصادية مستعصية.
فمنذ اندلاع الحرب في اليمن، ظلت الحكومة الشرعية تُتهم بالفشل في إدارة الاقتصاد، على الرغم من تدفق المساعدات، والمنح الخليجية، وتصدير النفط في بعض الفترات.
في عهد معين عبدالملك، تدهور سعر صرف الريال اليمني من 350 ريالاً للدولار إلى أكثر من 1500 ريال، رغم حصول حكومته على مليارات الدولارات من الودائع والدعم.
تبعه أحمد عوض بن مبارك، الذي شهدت العملة في عهده هبوطا حادا خلال عام واحد فقط، ليصل الدولار إلى ما يقارب 2900 ريال.
لكن ما حدث في عهد سالم بن بريك لا يمكن وصفه إلا بالمعجزة الاقتصادية، أو لنقل المعجزة الأخلاقية.
فقد استلم الرجل حكومة في وضع كارثي، دون منح، دون صادرات نفطية، ودون أي وعود شعبوية. ومع ذلك، استطاع خلال ثلاثة أشهر فقط، أن يعيد سعر صرف الدولار إلى ما دون 1600 ريال، مستندا فقط إلى سياسة تقشف واقعية، وإصلاح مالي صارم، وتفعيل أدوات الرقابة، وتطهير المؤسسات من الفساد المتجذر.
وإذ لم يعتمد بن بريك على الدعم الخليجي، بل على شيء أكثر ندرة في زمن الحرب: الثقة الشعبية والعمل الميداني. ففي بلد تُستخدم فيه الوزارات بوصفها إقطاعيات سياسية، مثل الرجل نموذجا نادرا لمسؤول "أبيض الكف"، لم يُعرف عنه التورط في أي ملف فساد رغم تسلمه مناصب مالية حساسة كمدير لجمارك عدن والحديدة وحرض، ووزيرا للمالية. بل لقد فهم الرجل أن أزمة اليمن لا تكمن فقط في شح الموارد، بل في غياب الإدارة النزيهة والفعالة.
على إن تجربة بن بريك تؤكد أن المعركة الحقيقية ليست مع الدولار، بل مع ثقافة الفساد التي نخرت جسد الدولة لعقود. فالإصلاح الاقتصادي لا يبدأ من البنك المركزي، بل من إرادة سياسية وشخصية تتحمل المسؤولية وتدفع الثمن. وقد دفع بن بريك الثمن، لكنه منح اليمنيين فرصة لتخيل دولة قابلة للحياة، يقودها أشخاص لا يبيعون الأوهام ولا يشترون الولاءات.
كذلك في بلد تقوده الحرب، ويُنهك فيه المواطن بين جبهات الاقتتال، وانهيار المؤسسات، يثبت سالم بن بريك أن الشرف لا يُصنع بالكلام، بل بالفعل.
وأن المخلصين لا يحتاجون إلى أبواق إعلامية، يكفي أن يتكلم الواقع نيابة عنهم.
ألا فليرفع التاريخ رأسه احتراما لهذا الرجل، ولعلها بداية جديدة لفهم ما يمكن أن تفعله النزاهة حين تُمنح لها فرصة واحدة فقط.
ألا تحية للحضرمي النبيل، ولليمني الذي لم يُدنس يديه، ولم يخذل الناس.