إفلاس الفنانين نهايات أليمة صادمة.. إيديولوجيا متوارثة أم شظف حتمي؟

إفلاس الفنانين نهايات أليمة صادمة.. إيديولوجيا متوارثة أم شظف حتمي؟
صورة من الأرشيف

محمد عمر

نجوم لمعوا في أذهان الأجيال، اعتاد الجمهور رؤيتهم يسرفون حياتهم في بذخ، وبغتة يختطفهم الموت معدمين لا يملكون قيمة كفن!
بقدر ما هي موجعة هذه النهايات المأساوية للمبدعين المشتغلين في القطاع الفني والثقافي، إلا أن جل من يسلك نفس الدرب لا يتعظ، يسقط غالبا في الحفرة ذاتها، حفرة الإفلاس!
يكاد لا يمضي يوم، لا سيما في البلدان العربية النامية، هنا في اليمن على وجه التحديد، إلا وتطفو على الملأ قصة جديدة تثير الشفقة بالتعاطي الواسع في الإعلام وعلى مواقع التواصل، وتثير الحيرة والحسرة أيضا، لماذا هذا المآل المفجع؟ كيف ضاع عائد انتاجهم هباء؟
ترى كيف يمكن تفسير ذلك؟

إذا ما تعمقنا في أنماط السلوك البشري، نجد أن كثيرا من الأغنياء يفنون حياتهم نحو الثراء بتقشف وبين يديهم المليارات، لا يؤمنون بحد معين، تمكنت هذه الشراهة من آدميتهم.
أما المجرمون يتوارثون جينات الغطرسة، يفقدون البوصلة، يصادقون الشيطان، يستبدون فيعجزون عن استرداد انسانيتهم، لابد إذن أن يوغلوا في الدم، سباق لحصد أكبر حصة من الرؤوس.

هذا الإسقاط وجدته يلائم الفنانين والمثقفين _ كل من يرتكز انتاجه على الحواس، من يعمل بالذهن، الأدباء والموسيقيون والصحفيون والقائمة تطول _ يرضخ هؤلاء لعبودية أخرى بعيدة عن المال والدم، عبودية في الإسراف في الفن، جشع في استكشاف خباياه وسبر أغواره، هوس بمنح الجمهور المزيد.
إنما فاتورة ذلك هي الفقر الحتمي، يبددون أعمارهم في ترف خاسر، ودائما ما يأكلهم من الداخل قلق النقص والعطش لإنتاج الجديد.

سيكولوجية الفنان وقدره إذن أن يمرح في حياته بالطول والعرض بمزاجية، غير آبه بالمستقبل، يعتزل كل الالتزامات ويتمرد حتى على نفسه، يوغل في تقديس موهبته وينشد الكمال، للتعبير النفسي للشهرة للتأمل وللاحساس بالوجود.
كلها دوافع لم ترتبط يوما بالمال، غايتها تحرير الطاقة وفرزها عبر أي وسيلة: قماش، لوحة، قلم، جيتار، عدسة.
معظمهم بلا صندوق للتقاعد أو ضمان اجتماعي، بلا تخطيط للغد فضلا عن المستقبل.
هل من المنطق حينها أن نسوق الشتائم للمسؤولين؛ إذا ما انتشرت صورة أديب يئن على سرير المرض، أو طالعنا تسجيلات مصورة لمطرب أو مذيع عيناه تفيض بالدمع يستجدي تذكرة سفر للعلاج في الخارج، أو بيان تضامن مع ممثل مهدد بالتشرد؛ لم يعد يملك حتى قيمة سداد إيجار منزله، بعد نصف قرن من النجومية والعطاء!

ظاهرة مسيئة للمشهد الثقافي والفني بلا شك، بممارسة التسول على أعتاب السلطات وأمام العدسات، ومؤلمة أيما إيلام.
بيد أن البعض يذهب للقول بأنها استراتيجية لتجويع الفنان، إيديولوجية ينتهجها الحكام وربما المجتمعات أيضا، تغتال الفن القادر على بث تظلمات الناس وكشف الغطاء عن الظلام، تحوّل الفنان إلى مجرد آلة لا روح فيها، حتى لا يفكر أبدا في أي شيء آخر دون بطنه!
من الجائز أيضا أن ينتهي الفنان إلى هذا المصير حين يفقد بريقه بتقدمه في العمر، لم يعد مهما ولا مرغوبا، فيفقد بطبيعة الأمر مصدر عيشه من مهنته الوحيدة ويفلس ويلجأ للغير.
كل ذلك يظل محض تأملات، التفكير المجرد في حتمية هذا الإفلاس بحد ذاته جرأة تشوبها حساسية وأسوار مجتمعية عالية، من النوادر التطرق إليها.
ليس من السهل تعديل قوانين الكوكب، أو حتى إبصار الصورة بأبعادها الشاملة، هي نظرية فلسفية معقدة. يقول شكسبير: "ليت المسرح مملكة والممثلين أمراء"، يبرهن على أن الواقع نقيض الأماني. ويردف الإسباني سيرفانتيس: "لا قيمة للشهرة بدون ربح". أي أن من يعول على الفن والثقافة ليعيش، فقد انفصل تماما عن الواقع! هكذا تحكي شواهد التاريخ.